مرتزقة كولومبيون وحرب السودان- بعد إقليمي ودولي جديد في الأفق.

المؤلف: ركابي حسن يعقوب08.19.2025
مرتزقة كولومبيون وحرب السودان- بعد إقليمي ودولي جديد في الأفق.

أعلنت الحكومة السودانية عن مشاركة مقاتلين أجانب مستأجرين، قادمين من جمهورية كولومبيا، في الصراع الدائر، حيث انضموا إلى صفوف قوات الدعم السريع المتمردة.

أكدت وزارة الخارجية السودانية أن لديها حياز على كافة الأدلة والوثائق التي لا تدع مجالاً للشك، والتي تثبت ضلوع مرتزقة من كولومبيا، بالإضافة إلى أعداد غفيرة تقدر بمئات الآلاف من المرتزقة قدموا من دول الجوار الإقليمي.

وأوضحت الوزارة أن هذه المستندات القاطعة قد تم تقديمها إلى مجلس الأمن الدولي عبر المندوبية الدائمة للسودان لدى الأمم المتحدة. وأضافت الخارجية السودانية أنها أرفقت مع هذه الوثائق بينات دامغة تثبت قيام جهات خارجية بتوفير الرعاية والدعم المالي لعمليات جلب وتجنيد هؤلاء المقاتلين الأجانب.

ويفيد الجيش السوداني بأن قوات الدعم السريع، ومنذ بداية هذه الحرب المأساوية، تعتمد بشكل مكثف على المرتزقة، الذين يشاركون في مهام فنية متخصصة، مثل تشغيل أطقم المدفعية والطائرات المسيّرة بأنواعها المختلفة، بالإضافة إلى مشاركتهم الفعالة كمقاتلين في الخطوط الأمامية.

وفي تحقيق استقصائي معمق نشره موقع La Silla Vacia مؤخرًا، تم الكشف عن مشاركة ما يزيد على 300 جندي كولومبي سابق، والذين تم تجنيدهم في إطار عملية أُطلق عليها اسم "ذئاب الصحراء". يقود هذه العملية ضابط كولومبي متقاعد برتبة عقيد، ويتولى مهام القيادة والإشراف على عمليات المرتزقة الكولومبيين المنخرطين في الحرب في السودان، إلى جانب قوات الدعم السريع، وتشمل هذه العمليات التجنيد، والتدريب، والتنسيق، والقتال المباشر.

إن الكشف عن هذه المعلومات البالغة الخطورة يمثل منعطفًا حاسمًا في مسار الحرب السودانية، ويضفي عليها بعدًا جديدًا، الأمر الذي قد يؤدي إلى انتقالها من نطاق الصراع المحلي إلى ساحة إقليمية، وربما حتى إلى سياق دولي أوسع.

ويأتي هذا الكشف ليسلط الضوء بشكل جلي على سلسلة من الدلائل والاستنتاجات والآثار المترتبة على هذا التطور الذي يمكن وصفه بأنه ذو أهمية قصوى. فالحرب في السودان، وعلى الرغم من وطأة نارها المستعرة التي أزهقت أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء، وهجرت الملايين من المواطنين السودانيين، وخلفت وراءها دمارًا شاملاً طال كافة أوجه الحياة، إلا أنها ظلت للأسف حبيسة في دائرة هامشية من الاهتمام الدولي، ولم تحظ بالاستجابة الإيجابية التي تستحقها، والتي كان من شأنها أن تسهم في إخماد نارها ووقف نزيفها.

إن التحركات الإقليمية والدولية التي جرت للتعامل مع هذا الوضع لم تكن بالمستوى المطلوب من الفعالية، ولم تُحدث أي تأثير إيجابي ملموس على أرض الواقع، بل تفاقم الوضع وازدادت وتيرة الاعتداءات الوحشية التي تستهدف المدنيين العزل من قبل قوات الدعم السريع، وخاصة في مناطق كردفان ودارفور.

تشهد مدينة الفاشر، التي تعاني من حصار خانق تفرضه عليها قوات الدعم السريع في الوقت الحالي، كارثة إنسانية مروعة. ويتعرض سكان الفاشر لقصف يومي ممنهج من قبل قوات الدعم السريع، التي تفرض على المدينة طوقًا محكمًا من الحصار، وتمنع وصول المساعدات الإنسانية والإمدادات الغذائية الضرورية إلى السكان المحاصرين الذين يعانون من الجوع المدقع، مما اضطر الكثير منهم إلى اللجوء إلى تناول أعلاف الحيوانات يائسين لسد رمقهم والبقاء على قيد الحياة.

وهناك جملة من المؤشرات والاستنتاجات الهامة التي تترتب على التطور المتمثل في تصاعد وتيرة مشاركة المرتزقة الأجانب في الحرب في السودان إلى جانب قوات الدعم السريع. وتمثل هذه المؤشرات والنتائج تطورًا بالغ الأهمية يضع إطارًا لما ستكون عليه الأوضاع في هذا البلد المنكوب، ويرسم معالم أكثر وضوحًا لمآلات الحرب ومصير قوات الدعم السريع المتورطة في إراقة الدماء.

أولا: المؤشرات

  • إن الكشف عن وجود مرتزقة في صفوف قوات الدعم السريع يشير بوضوح إلى تورط مباشر من جانب أطراف خارجية في هذه الحرب، وبالتالي يتيح هذا الكشف للمجتمع الدولي قدرة أكبر على تتبع الخيوط التي تساعده على تقصي الحقائق، والوصول بسهولة ووضوح أكبر من أي وقت مضى إلى استنتاجات تمكنه من تحديد وتسمية القوى الإقليمية والدولية الداعمة والممولة لقوات الدعم السريع على وجه التحديد لا التلميح.
  • ويسلط هذا الكشف الضوء بشكل مكثف على مصادر تمويل عمليات التجنيد والاستقطاب للمرتزقة، والطرق التي يتم اتباعها لنقلهم إلى داخل الأراضي السودانية، وتحديدًا إلى مدينة نيالا في دارفور، الأمر الذي يوفر "أدلة ظرفية" قوية على تورط قوى إقليمية في تقديم الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع.
  • كما يشير هذا الكشف إلى أن قوات الدعم السريع لم تفقد قدرتها القتالية فحسب، بل إنها فقدت كذلك مصادر التجنيد من داخل المجتمعات المحلية المؤيدة لها، والتي كانت تمثل "المورد الرئيسي" لقواتها وتشكيلاتها المقاتلة.
  • إن المؤشر السابق أدى بدوره إلى إضعاف الدافع المعنوي للقتال وتزعزع الروح المعنوية للمقاتلين التابعين بشكل مباشر لقوات الدعم السريع، الذين يحملون لقب "الأشاوس"، وهم يشاهدون وجوهًا غريبة لا تنتمي إليهم تقاتل في صفوفهم من أجل المال، لا من أجل ما كانوا يطلقون عليه "القضية". وهو ما يثير في أذهانهم الكثير من التساؤلات العميقة، أبرزها: هل هؤلاء المرتزقة يريدون حقًا نصرة قضيتهم أم أنهم قد جيء بهم لنصرة قضية أخرى تخص قوى من خارج الحدود؟ وهل جلب الديمقراطية والحكم المدني وتحقيق العدالة الاجتماعية يمكن أن يتحقق على أيدي عناصر أجنبية تبيع أرواحها مقابل المال؟
  • إن الظهور العلني للمرتزقة الأجانب عبر الصور ومقاطع الفيديو التي يلتقطونها بهواتفهم النقالة وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي متباهين بها، يشير إلى توجه جديد للقوى الإقليمية الداعمة لهم، مفاده أنهم لم يعودوا يخشون أي انتقادات أو مساءلة، وأن اللعب في الفترة القادمة سيكون على المكشوف بعد أن كانوا يحرصون على إضفاء السرية والإنكار على دعمهم. وربما يفسر ذلك بأنهم يستغلون حالة اللامبالاة الدولية تجاه الحرب في السودان، أو بأنهم قد تلقوا ضوءًا أخضر للاستمرار في دعمهم لقوات الدعم السريع وفق ترتيبات محددة.
  • ويكشف مؤشر أخير عن حقيقة تدني مستوى كفاءة مقاتلي وقيادات قوات الدعم السريع إلى الحد الذي يتم معه استجلاب مقاتلين أجانب وفنيين متخصصين لتدريبهم على استخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والتكتيكات القتالية التي كان من المفترض أن يكونوا على دراية بها مسبقًا، وهم يواجهون جيشًا يتمتع بقدر كبير من الاحترافية، وفي بيئة مألوفة لديهم وعلى أرض يعرفونها جيدًا.

ثانيا: النتائج

  • جذب المزيد من الاهتمام والتركيز الإقليمي والدولي للحرب في السودان، خاصة من القوى الفاعلة في هذين المستويين التي لم تنخرط من قبل، لا من قريب ولا من بعيد، في الصراع السوداني.
  • وضع الأمن والسلم الإقليميين والدوليين على المحك بما يمثل تهديدًا حقيقيًا لهما. فعلى الصعيد الإقليمي، يؤدي هذا التطور إلى إثارة مخاوف عارمة لدى العديد من دول المنطقة، وخاصة دول الجوار السوداني، كونه يمثل وجهًا جديدًا من وجوه انتهاك سيادة الدول والتدخل السافر في شؤونها الداخلية وإثارة الفتن والاضطرابات وزعزعة الاستقرار وتغيير أنظمة الحكم. والعديد من دول المنطقة تعاني بالفعل من مشكلات داخلية وأزمات في الأمن والوحدة والتماسك والشرعية، وتخشى هذه الدول من تكرار التجربة السودانية المؤلمة فيها.
  • يوفر هذا التطور الخطير، إن لم يتم تداركه وكبحه، بيئة مواتية لتفريخ ورعاية الإرهاب الدولي العابر للحدود، ويشجع على تنامي قوة الميليشيات المسلحة وتوسيع نطاق استخدامها في النزاعات والصراعات على مستوى العالم، واستشراء ظاهرة الحروب بالوكالة التي تهدد الأمن والاستقرار العالميين.
  • وبالتالي، يترتب على هذه الظاهرة الخطيرة خرق سافر للبروتوكولات والقواعد والأسس المرعية فيما يتعلق ببيع واستخدام الأسلحة المتوسطة والاستراتيجية، والتي يجب أن يقتصر استخدامها على الجيوش النظامية والمؤسسات الدفاعية في الدول ذات السيادة، وليس العبث بها وتسليمها لميليشيات وتشكيلات شبه عسكرية أقرب ما تكون إلى العصابات المنظمة الخارجة عن القانون.
  • وهو ما يمهد الطريق لنشوء كارتيلات سلاح ضخمة تغذي الإرهاب الدولي وتزيد من نفوذ الميليشيات والتشكيلات شبه العسكرية حول العالم، وهو أمر يضع الأمن والسلم الدوليين تحت وطأة التهديد وعدم الاستقرار.
  • وآخر النتائج في هذا الترتيب، وأولها بالنسبة للحرب في السودان، أن تورط المرتزقة الأجانب فيها وقتالهم في صف قوات الدعم السريع قد غيّر مسار هذه الحرب بشكل جذري. فالحرب بدأت بتمرد قوات الدعم السريع على قيادة الجيش والسلطة القائمة ومحاولتها الاستيلاء على السلطة بالقوة، ثم تحولت إلى حرب بالوكالة نيابة عن قوى خارجية، وهي الآن تتجه بسرعة نحو مسار الحرب الإقليمية، التي من المرجح أن تجر إليها أطرافًا دولية ترى في استمرارها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية.

كيف السبيل إلى الخروج من هذه المعضلة؟

لتجنب المآلات الكارثية غير المرغوب فيها، التي ستطال الجميع على المستويين الإقليمي والدولي، إذا استمر المجتمع الدولي في التزام دور "المتفرج" السلبي على تطورات الحرب في السودان، فإنه يتعين على القوى الإقليمية والدولية أن تتحرك بشكل فوري وحاسم لاحتواء هذا الوضع المتدهور، وذلك عبر تنظيماتها الإقليمية والدولية المتمثلة في الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بمؤسساتها المختلفة، وذلك من خلال وضع الأمور في نصابها الصحيح، والبدء بكف أيدي القوى الداعمة لقوات الدعم السريع عن تقديم أي دعم إضافي لها، وإيجاد آلية فعالة لحمل الدول التي تشكل مصدرًا رئيسيًا للمرتزقة على تحمل مسؤولياتها الكاملة لوقف تدفق المقاتلين المرتزقة من جنسياتها إلى السودان.

ويتعين أيضًا على دول العبور أن تتوقف فورًا عن السماح لهؤلاء المرتزقة بعبور أراضيها، وأن تمارس القوى الدولية التي تصدر الأسلحة مزيدًا من الرقابة الصارمة على مبيعاتها من الأسلحة، بما يضمن عدم وصولها إلى أيدي الميليشيات والجماعات المسلحة غير المشروعة، وأن تستخدم أقصى درجات نفوذها للضغط على الدول التي تستورد الأسلحة منها لضمان عدم وصولها إلى وجهة أخرى غير مصرح بها.

وإلا فإن الخطر سيحدق بالجميع، فالعالم اليوم أصبح قرية صغيرة تسوده حالة من الاعتماد المتبادل الوثيق، بحيث تتأثر الدول والمجتمعات في مختلف أرجائه بكل ما يقع فيها من أحداث سلبية أو إيجابية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. وينطبق على هذا الوضع نظرية "تأثير الفراشة" التي صاغها عالم الأرصاد الجوية إدوارد لورينتز في ستينيات القرن الماضي لوصف حساسية الأنظمة المناخية للتغيرات الأولية الطفيفة، وهي نظرية تقوم على وصف الترابط الوثيق بين الأحداث الصغيرة والأحداث الكبيرة، وكيف أن الأحداث الصغيرة قد تؤدي إلى أحداث كبيرة غير متوقعة ذات عواقب وخيمة.

وإذا ما أضفنا إلى ذلك كله حقيقة أن السودان يتبوأ موقعًا استراتيجيًا متميزًا، وتتصل حدوده بصورة مباشرة بدولتين عربيتين تطلان على البحر الأبيض المتوسط، وهما مصر وليبيا، وله حدود بحرية مع أكبر دولة عربية خليجية وهي المملكة العربية السعودية، وحدود برية مع خمس دول أفريقية، منها أربع دول حبيسة لا تطل على أي منافذ بحرية، ويطل بساحل طويل على البحر الأحمر، الذي يمثل ممرًا بحريًا تجاريًا شديد الأهمية بالنسبة للعالم أجمع، فإن أي فوضى تعم فيه وفي محيطه الجغرافي بسبب أطماع قوى إقليمية تستخدم أذرعًا عسكرية غير منضبطة وغير نظامية ستكون تداعياتها كارثية على الجميع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة